نون والقلم

رضوان السيد يكتب.. السلام العالمي في منظور إسلامي جديد

يعاني المسلمون من سوء علاقاتٍ متفاقمٍ بالعالم، ما عاد متعلقاً وحسْب باصطدام الإحيائيات والأُصوليات بنظام العالم؛ بل تعدى ذلك إلى صعود ظاهرة الإسلاموفوبيا المفزعة، ومصير القوى الإقليمية والدولية إلى التدخل في ديارنا وسيادتنا بالقتل والتهجير والتدمير، بحجة أننا جميعاً نشكّل خطراً على أمنها وأمن العالم!

وعلى وقع اعتبارات هذه الهموم والمشكلات، عقد منتدى تعزيز السلم مؤتمره السنوي الرابع في أبوظبي وهدفه اجتراح رؤية إسلامية للسلم العالمي والسلام مع العالم. وبخلاف الكثير من الندوات وورشات العمل، ما كان القصد التجديد في هذه المسألة أو تلك، أو ترميم هذا الصدع أو ذاك، بل صوغ سردية أو تأويلية شاملة تعيد النظر بصورة جذرية في الرؤية والخطاب وفي التدبير والتصرف.

لقد كان هناك دائماً فقه للدين وفقه للعيش. وعندما بدأ الاختلال يتناول فقه العيش وترتيباته، نتيجة لمتغيرات الحداثة، وللصراع في الإصلاحيين في النظام الدولي؛ بذلت جهودٌ كبيرة من جانب الإصلاحيين والصحويين للتجديد في فقه الدين بحيث يعود التلاؤم بين الطرفين أو بين الفقهين، لكنّ الانتظام لم يحصل، وتحول الأمر إلى مساعٍ من جانب العاملين في فقه الدين إلى الضغط به على فقه العيش المتغير إلى أن انفجر الأمر من طرفيه، دونما قدرة حتى الآن على استعادة الانضباط. وهذا أدى إلى زيادة الاختلالات في العيش وترتيباته، والدين وراديكالياته.

وقد كانت هناك محاولاتٌ خمسٌ كبرى للتجديد في الخطاب الديني خلال القرن العشرين، والأُولى قام بها محمد عبده ومدرسته في الإصلاح الديني، وعلى أساس تحقيق السُنن في النهوض، وإصلاح شأن المؤسسات الدينية. أما الثانية فقام بها محمد إقبال في «تجديد التفكير الديني في الإسلام». والإصلاح عنده مزيجٌ من الاعتراف بالجديد في الفكر والحركات من جهة، والاعتصام ببعض القديم من جهة أُخرى. وفي الثالثة تدخل عبد الرزاق السنهوري للملاءمة بين المدني والشرعي في اشتراع القانون في الدولة الحديثة. وفي الرابعة قام المفكر الجزائري مالك بن نبي في طرح نظرية في الحضارة. وكان الوحيد بين الإصلاحيين الذي كان ذا نظرة جيواستراتيجية اعتبر أنها يمكن أن تُخرج بتحالفاتٍ كبرى من القابلية للاستعمار، وتصنع الجديد والمتقدم. وفي المرحلة الخامسة أو المشروع الخامس تجدد الاهتمام بمقاصد الشريعة، باعتبارها القادرة في فهمها المتجدد للمسألة الإنسانية أن تُعيد الوصل مع العالم في مجال تحقيق مشتركاتٍ كبرى في قيم العيش والتصرف.

وما تحقق نجاحٌ كبيرٌ في كل هذه المشروعات، لأنها ما كانت شاملة، ولأنّ أصحابها كانوا يفتقرون إلى المرجعية، ولأنّ الإحيائيين نجحوا في تغيير المفاهيم وأرادوا مكافحة الاختلالات بالقوة فحصل الانفجار الذي لا نزال نعاني من آثاره.

تقوم السردية الجديدة في فقه الدين وتغيير رؤية العالم على ثلاث مقولات؛ ترى الأولى أنّ الرحمة هي القيمة العليا في علاقة الله سبحانه وتعالى ببني البشر. وفلسفة الدين هذه ليست جديدة، فقد اختلف المتكلمون في سياقاتٍ أُخرى وزمنٍ آخر على القيمة أو الميزان فذهبت المعتزلة إلى أنه العدل، بينما ذهب أهل السنة إلى أنها الرحمة. وبالطبع فإنّ الأمر لا يخلو من مشكلاتٍ بشأن حصرية الحقيقة، وحصرية الخلاص. وهي المشكلة التي ما خرجت منها المسيحية رغم موجة الاعترافات في المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965). ثم إنّ ميزان الرحمة يتضمن تصوراً آخر لعلائق الإيمان بالعمل، وهي مشكلة قديمة، لكنّ العمل عليها يحصل بمعانٍ أُخرى وسياقاتٍ أُخرى.

أما المقولة الثانية فتعتبر التعارف القيمة العليا في العلاقات بين البشر، وهذا هو نصُّ القرآن الكريم. وتترتب على هذا الاعتبار مسائل ومشكلاتٌ بشأن الموروث في النصوص والوقائع والوعي، بشأن الحرب والسلم، ودار الإيمان ودار الكفر، وعلائق الدين بالدولة، ومعاني ودلالات التعارف والمعروف والاعتراف. وهذه جميعاً مفاهيم داخَلَها التغيير الكبير الذي اصطنعته الإحيائيات، وصارت المعاني الجديدة قوية في اعتبارات الوعي العام. وتشجع عليها الاستنزافات الكثيرة وانجراحات الوعي والواقع، بحيث صارت مفاهيمُ دينية كبرى مجالاً لانفجار العواطف، وانفعالات الغيظ والغضب والإحباط.

وتبدو المقولة الثالثة في السردية أو التأويلية أسهلَ قبولاً لكثرة العمل عليها في العقود الأخيرة، والمعني بها: مقولة مقاصد الشريعة أو المصالح الضرورية. وهي بحسب الفقهاء القدامى خمس: حق النفس (الحياة)، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسل، وحق الملك. وهي تشكّل بالمعنى الجديد تكليفاً والتزاماً باتجاه تحقيق مقولة التعارف تجاه النفس وتجاه الغير؛ إذ إنّ هذه الضرورات أو المقاصد صارت قيماً عالمية وقواسم مشتركة، ومجالاتٍ للشراكة مع العالم. وبالوعي الجديد أفاد كثيرون منها في إعلاناتٍ إسلامية لحقوق الإنسان. وكان اللاهوتي الكاثوليكي البارز هانز كينغ قد قال: لا سلام في العالم إلاّ بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلاّ بظهور الوعي بأخلاقٍ عالمية، أو مشتركات كبرى في القيم.

في مؤتمر منتدى تعزيز السلم، جرت نقاشاتٌ غنية بين المئات من المدعوّين والمشاركين. وقد كان هناك وعي قوي بضرورات الخروج من المأزق، والذي يرفض الخلط بين المحافظة والالتزام من جهة، والأصولية العقدية من جهة ثانية. كما يرفض اعتبار الشريعة بمثابة القانون الذي ينبغي أن يحكم الدولة لتكون إسلامية. ثم إنّ العلاقة بالعالم في التصور المتطرف يراد إدراكها باعتبارها علاقة بين الإيمان والكفر، وليس علاقة تعارف أرادها لنا القرآن الكريم.

وكما قيل جديدٌ كثيرٌ في النظر والاعتبار وبخاصة المقدمة التأطيرية للعلامة ابن بية رئيس منتدى تعزيز السلم، قال عالم الاجتماعيات فرهاد خسرو فاهار الكثير ذا المعنى عن الإسلاموفوبيا، وعلائقها بالهجرة والعنف والوعي، وهي ثلاثة أمورٍ تجري على مستوياتٍ مختلفة وتتحكم بالمشهد.

ولنعد إلى الأولويات الثلاث العربية والإسلامية والتي طرحتها مؤتمرات المنتدى: استنقاذ الدولة الوطنية، واستعادة السكينة في الدين، وتصحيح العلاقة مع العالم. وكما كان بارزاً في إعلان مراكش وفي مؤتمر الدولة الوطنية بأبوظبي: مبدأ المواطنة والحكم الصالح والرشيد؛ فإنّ البارز في مؤتمر الإسلام والسلم العالمي: استعادة السكينة في الدين، وتصحيح العلاقة مع العالم. إنّ هذين الأمرين ضروريان لبقاء الدين والأمة، وهما يقتضيان بالفعل فلسفة جديدة؛ إذ إنّ الترقيع والترميم ما عادا ممكنين، بل الضروري المتفق مع روح الدين اعتبار قيمة الرحمة في العلاقة بالله عز وجل لاستعادة السكينة والطمأنينة في الدين، وقضية التعارف في العلاقة مع بني البشر، لاستعادة السلم والأمن والثقة، والمشتركات الخمس مع الآخرين، لكي نكون جزءاً من العالم في قيمه وتنظيماته فنصون الحق في الوجود وفي الكرمة، وفي صنع الجديد والمتقدم والإنساني.

 

نقلا عن الشرق الاوسط

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى