نون والقلم

خيرالله خيرالله يكتب: سعد الحريري…صدمتان وليس صدمة واحدة

لا يزال سعد الحريري سعد الحريري. لم يتغيّر شيء في نجل رفيق الحريري الذي لا يزال يبحث عن تسويات، ولو كان ذلك على حسابه، تضحيات ذات طابع شخصي حتّى، طالت ماله الخاص وطالت رصيده الشعبي. يفعل الحريري ذلك من اجل لبنان.

 

اخرست المقابلة التي اجراها رئيس مجلس الوزراء اللبناني المستقيل كل أولئك الذين ادعوا انه ليس حرّا. عندما يكون الحريري في الرياض، فهو بين اهله وبين حريصين على لبنان اكثر بكثير من بعض اللبنانيين الذين يؤمنون بـ«لبنان الساحة»، أي لبنان منصة الصواريخ والاعمال التخريبية في مختلف انحاء المنطقة خدمة لإيران وما تمثّله.

 

لم يصدر عن الحريري ما يشير الى انّه مستعد للعودة عن استقالته في غياب توافر شروط معيّنة. تمسّك ببيان الاستقالة الذي تضمّن ادانة كاملة لإيران وتأكيدا لمسؤوليتها عن الوضع المأسوي في لبنان. اعترف بانّ عليه العودة الى لبنان من اجل تقديم الاستقالة بطريقة ملائمة. هذا يعني بكلّ بساطة ان الكرة في ملعب الذين رفضوا، اقلّه الى الآن، التزام شروط التسوية التي ادّت الى وصول ميشال عون الى موقع رئيس الجمهورية.

 

اكد الحريري بكلّ بساطة انّه ليس مستعدا للقبول بان يكون لبنان «ساحة». هذا كلّ ما في الامر. ليس طبيعيا الّا يفرض رئيس مجلس الوزراء اللبناني الذي يقول «لبنان اوّلا» حدّا ادنى من الشروط التي تؤكد ان بلده لا يعمل ضدّ مصالحه. بكلام أوضح، لا يستطيع سعد رفيق الحريري ان يكون شاهد زور على اعمال اقلّ ما يمكن وصفها به انّها مشينة في حق لبنان واللبنانيين وكلّ ما هو عربي في المنطقة. اعمال من نوع المشاركة في الحرب على الشعب السوري او اطلاق صواريخ من اليمن في اتجاه الأراضي السعودية وزرع خلايا إرهابية في الكويت والبحرين…

 

احدث الحريري، عبر استقالته، صدمة. كانت المقابلة التلفزيونية التي أجراها بعد ايّام من الاستقالة صدمة أخرى. احدث صدمتين وليس صدمة واحدة. قال ما عليه قوله في بيان الاستقالة كاشفا الأسباب الحقيقية التي تعطل الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان. لمّح في الوقت ذاته الى المخاطر التي تهدد البلد وأهله بسبب الخروج عن التسوية التي أوصلت عون الى قصر بعبدا.

 

لماذا كانت المقابلة التلفزيونية صدمة اخرى؟ هذا عائد الى استخدامه لغة هادئة لتأكيد ان لبنان بين خيارين. امّا العودة الى شروط التسوية او مواجهة اخطار كبيرة لن يكون قادرا على تحمّلها. الأكيد ان ما لم يقله الحريري هو ان من بين هذه الاخطار مقاطعة عربية للبنان الذي يصدّر نسبة 87 في المئة من منتجاته الزراعية الى دول الخليج العربي الست. ما لم يقله أيضا ان هناك آلاف العائلات اللبنانية يعمل أبناؤها في الخليج. على العكس من ذلك، قال ان أبواب دول الخليج، على رأسها المملكة العربية السعودية، مفتوحة امام الخبرات اللبنانية بدليل ان الأمير محمّد بن سلمان وليّ العهد السعودي فاتحه في موضوع الاستعانة بالشباب اللبناني في اطار مشروع «نيوم». ليس هذا المشروع الذي سيقام على مساحة تزيد على 26 الف كيلومتر مربّع مشروعا عاديا بايّ مقياس اذا اخذنا في الاعتبار انّه يستهدف انشاء مدينة حديثة في منطقة قريبة من مصر والأردن تساعد في نقل السعودية الى عالم آخر مرتبط بثقافة الانفتاح والاعتدال والتعاطي مع كلّ ما هو حضاري في هذا العالم بعيدا عن أي عقد. انّه عالم التكنولوجيا الحديثة والبيئة البعيدة عن التلوّث والاستثمار في المناطق السياحية التي لا تزال بكرا وفي تنمية الثروة الانسانية اوّلا واخيرا.

 

تكمن المشكلة الأساسية في ان الحريري في مكان والذين دخلوا في التسوية في مكان آخر. لا يمكن للبنان ان تقوم له قيامة في حال بقي اسير فكرة «الساحة». تكبّل هذه الفكرة لبنان واللبنانيين ولا تترك لهم، خصوصا للمسيحيين، مجالا آخر غير السعي الى الهجرة.

 

قامت فكرة التسوية على إعادة الحياة الى مؤسسات الدولة. من دون عودة الى احياء هذه الفكرة، لا فائدة تذكر من أي تسوية تبقي لبنان خنجرا في الخاصرة العربية. لا فائدة من تسوية يعتبر فيها «حزب الله» ان الانتصارات التي يحقّقها في سورية، وهي انتصارات فارغة من ايّ مضمون، هي انتصارات على اللبنانيين الآخرين الذين يؤمنون بالبلد. لا فائدة من انتصارات تتمثل في اطلاق صواريخ إيرانية من الأراضي اليمنية في اتجاه الأراضي السعودية. هذه أوهام آن للحزب والذين يسيرونه التخلص منها اليوم قبل الغد.

 

الأخطر من ذلك كلّه ان المنطقة مقبلة على احداث كبيرة. ليس في استطاعة لبنان حماية نفسه من دون اتباع سياسة «النأي بالنفس». كانت عبارة «النأي بالنفس» من بين اكثر العبارات التي ترددت في المقابلة التلفزيونية للحريري. تكمن الفائدة من العودة الى البلد في المساهمة في حماية لبنان بدل عمل كلّ شيء من اجل توريطه اكثر في مشروع لا هدف منه سوى القضاء على ما بقي من مؤسسات الدولة ومن اقتصاد يظلّ القطاع المصرفي عموده الفقري.

 

يظل الخيار المطروح واضحا. هل لبنان بلد عربي مستقل ام مجرّد ورقة من أوراق ايران في المنطقة، أي انّه مجرّد «ساحة»؟

 

لم يطرح الحريري سقفا اعلى للتسوية. سعى الى جعل لغة المنطق تسود وذلك تفاديا لكارثة تحلّ بلبنان. فاجأ كلامه المنطقي اولئك الذين اعتقدوا ان وضعه النقاط على الحروف في بيان الاستقالة سيتبعه كلام اقوى. الحقيقة ان لغة المنطق التي استخدمها كانت هي اللغة الأقوى وكانت لغة مكملة لما ورد في بيان الاستقالة الذي يؤكّد ان مصلحة لبنان تتقدّم على كلّ مصلحة اخرى، خصوصا المصلحة المرتبطة بالمشروع التوسّعي الايراني وصواريخه وميليشياته المذهبية المنتشرة في كلّ المنطقة.

 

ما سيكون مطروحا في الايّام القليلة المقبلة هل طلب الحريري المستحيل، أي ان يكون هناك من يستطيع فهم مغزى ما صدر عنه واستيعاب كلامه… ام سيبقى الدوران في حلقة مقفلة هو سيّد الموقف. الدوران في الحلقة المقفلة يعني اوّل ما يعني الغرق في أسئلة عقيمة من نوع هل الحريري محتجز في السعودية، بدل الذهاب الى معالجة لب المشكلة.

 

يكمن لبّ المشكلة في سؤال واحد: هل لبنان بلد عربي مستقل يريد المحافظة على مصالحه ومصالح أبنائه ومستقبلهم، لا سلاح فيه غير سلاح الجيش اللبناني وقوى الامن… ام لبنان «ساحة» لإيران تستخدمها في خدمة مشروعها؟

 

انّه السؤال البسيط المطروح منذ عقود وهو مكمل لسؤال ايّ لبنان نريد؟ لبنان هونغ كونغ او لبنان هانوي؟ اذا كان هناك من يعتقد ان نموذج هانوي لا يزال حيّا يرزق، كلّ ما عليه تذكّره هو ان طموح هانوي في الوقت الراهن هو ان تكون هونغ كونغ أخرى وان تستقبل دونالد ترامب بذراعين مفتوحتين. بالمناسبة، كان ترامب في فيتنام قبل ايّام واستقبل بحفاوة ليس بعدها حفاوة!

نقلا عن صحيفة الرأي الكويتية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى