نون والقلم

حقبة الانسحاب الأمريكي

عندما هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، شعر العالم بالقلق. وعندما قرر الانسحاب من اليونيسكو أعربت دول العالم عن أسفها. وبعد قراره الخروج من اتفاقيات باريس للمناخ انتابت المجتمع الدولي حالة من الاستياء، وهو نفس الشعور الذي أحس به قادة 11 دولة عضواً في اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ» التي هجرها ترامب بعد انتخابه.

 

مع توالي الانسحابات من الاتفاقيات والالتزامات أو المنظمات الدولية والإقليمية، أصبح من الواضح أن تلك القرارات تجسد ملامح سياسة عامة ممنهجة. ومن الواضح أن هذه السياسة ترمي إلى إعادة صياغة التوجهات الأمريكية كلها، ليس على الصعيد الدولي فحسب، ولكن محلياً أيضاً.

 

على سبيل المثال، يجاهد ترامب منذ توليه السلطة لإلغاء برنامج الرعاية الصحية المعروف باسم «أوباما كير» نسبة إلى الرئيس السابق. كما ألغى مبادرة الطاقة النظيفة، وتراجع عن برنامج تمويل تنظيم النسل، ونقض سياسة التساهل مع المهاجرين. يضاف إلى ذلك صداماته المتكررة مع المؤسسات والمنظمات الكبرى محلياً مثل القضاء والإعلام والكونجرس. ودولياً مثل الناتو والأمم المتحدة. فضلاً عن البلدان الموقعة على اتفاق التجارة مع أمريكا الشمالية الذي يريد تعديله إن لم يكن إبطاله.

 

تتجاوز توجهات ترامب بهذا الشكل ما تصور كثيرون أنه نوع من السعي الدؤوب للانقضاض على تراث أوباما السياسي. وعلى حد وصف الصحفي الأمريكي الشهير توماس فريدمان، فإن عقيدة ترامب تتلخص في عبارة واحدة هي «أوباما أقام هذا وأنا سأدمره». كان هذا قديماً، الحقيقة الثابتة الآن هي أن الكثير من الاتفاقيات والسياسات التي ينقضها ترامب سابقة على حكم أوباما.

 

وقد يكون هذا مقبولاً ولا يستدعي القلق، ولكن المشكلة أن الإدارة الأمريكية الحالية تسارع بالتنصل من الاتفاقيات أو الالتزامات الدولية والمحلية دون تشاور مع الشركاء، ودون أن يكون لديها تصورات عن البدائل. بل أحياناً وكما يقول نفس الكاتب الذي أشرنا إليه، دون دعوة الخبراء لتقديم إطار عمل جديد يضع في اعتباره العواقب وردود الفعل ويحدد الخطوة التالية.

 

ويمكن النظر إلى الاتفاق مع إيران كنموذج: إلغاء الاتفاق سيقنع كوريا الشمالية بأنه لا يوجد مبرر للتفاوض مع واشنطن ما دامت تلغي اتفاقياتها قبل أن يجف مدادها.

 

أما الرد الإيراني نفسه فهو مسألة أكثر تعقيداً، ولا يبدو أن إدارة ترامب قد حسبت حسابه. بوسع إيران أن تشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة وأصدقائها في منطقة واسعة لاسيما العراق وسوريا وأفغانستان، حيث توجد قوات أمريكية غير بعيدة عن قوات إيرانية أو مليشيات مدعومة من إيران. ثم ماذا عن الشركاء الآخرين في الاتفاق وبينهم حلفاؤها الأوروبيون بريطانيا وألمانيا وفرنسا؟ ماذا سيفعل ترامب إذا تمسكوا بالاتفاق وواصلوا الاستثمار مع إيران؟ هل سيوقع عقوبات عليهم؟.

 

الصين قضية أخرى بالغة التعقيد، يبدو أن ترامب لم يفكر فيها بصورة كافية، أو نسيها تماماً عندما قرر الانسحاب من الشراكة عبر المحيط الهادئ. في هذا الاتفاق التجاري كانت أمريكا تتربع على رأس كتلة اقتصادية عملاقة تشكل 40% من الناتج العالمي. وكان الاتفاق يضمن لها الإعفاء من 18 ألف تعرفة جمركية على منتجاتها. لم تكن الصين عضواً في هذا التجمع الاقتصادي العظيم، وبالتالي كانت المستفيد الأكبر من انسحاب أمريكا.

 

وترى «نيويورك تايمز» أن ترامب يقع في تناقض واضح؛ هو أنه يسعى لتطبيق شعاره «أمريكا أولاً» عبر ما يتصور أنه يحقق القوة لبلاده ويدعم نفوذها الخارجي، بينما يصر على التنصل من الاتفاقيات الدولية، وهي إحدى لبنات النظام العالمي. كما يواصل تقويض دور المؤسسات العالمية وهي أدوات بلاده لممارسة نفوذها وتحقيق مصالحها.

ليس بوسع أمريكا أن تكون قوية ومؤثرة وهي معزولة عن العالم، ومنكفئة على نفسها. كيف يمكن لدولة أن تملي مواقفها على الآخرين بينما تقطع جسور التواصل معهم؟

 نقلا عن صحيفة الخليج

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى