اخترنا لكنون والقلم

بوتين.. ترامب ونحن!

تثير مواقف القوى الكبرى من القضايا العربية الكثير من النقاش والتساؤلات في مجمل الدول العربية، وتختلف التقييمات السياسية والجيواستراتيجية ومعها الإعلامية لهذه المواقف باختلاف أجندات الدول الوطنية، وفق مقاربات متنوعة تراعي في الأغلب التوازنات والرهانات الإقليمية السائدة. ونستطيع أن نلاحظ أن القراءات التي يجري تقديمها بشأن تلك المواقف، تتأثر بشكل لافت بطبيعة المزاج العام لزعيمي روسيا وأمريكا اللذين أصبحا يمثلان قطبي الرحى بالنسبة للتوازنات الدولية ومسار السلم والاستقرار في العالم.
وقد كان لحدث تسلم ترامب لمقاليد السلطة في البيت الأبيض، تأثير بالغ في تلك القراءات، حيث أسهمت شخصية ترامب المتقلّبة في إثارة الكثير من الشكوك داخل المشهد السياسي العربي، ونتج عن ذلك تحوّلات متسارعة وفجائية في التعامل مع المواقف الأمريكية المتعلّقة بقضايا الشرق الأوسط، نتيجة للوعود الكثيرة التي أطلقها ترامب في حملته الانتخابية، والتي تراجع عن جانب كبير منها، بشكل دراماتيكي.
بيد أن هذا «المهرجان السياسي» الترامبي المثير للجدل، لم يسهم في جعل المتابعين للشؤون العربية يشعرون بأن ترامب ينطلق في تغييره لمواقفه وفي تعامله مع وعوده الانتخابية، من خلفيات سياسية واستراتيجية واضحة المعالم، الأمر الذي فرض على الجميع التعامل بحذر شديد مع مجمل المواقف الراهنة التي تتبناها الإدارة الأمريكية الجديدة.
ويمكننا أن نلاحظ أن التحوّلات الكثيرة التي تميّز مواقف ترامب السياسية، لا تؤثر فقط في مسار الأحداث في المنطقة، ولكنها تسهم في اللحظة نفسها في توجيه الكثير من القراءات العربية التي يجري تقديمها بشأن العلاقات مع زعيم الكرملين بوتين، وفي فهم طبيعة ورهانات الدور الروسي في الشرق الأوسط. ويبدو هذا التأثير جلياً من خلال استقراء جانب من ردود الأفعال العربية المتباينة بشأن الاعتداء الإجرامي على بلدة خان شيخون، والضربة الصاروخية الأمريكية التي تلته على قاعدة الشعيرات الجوية السورية.
حيث رأى الكثيرون أنه قد يكون من الطبيعي ربما، أن تؤدي التطورات الساخنة على مستوى الملف السوري إلى بروز كل تلك القراءات المتباينة، بحكم الخطورة البالغة التي ميزت الأحداث في سوريا؛ تطورات أثارت إلى حد كبير مخاوف كل الأطراف العربية، نتيجة تصاعد حدة التوتر بين موسكو وواشنطن. لكن الشيء غير المفهوم وربما غير المبرر، يكمن في ذهاب البعض إلى العمل على توجيه تلك القراءات نحو الخيارات الصفرية، التي من شأنها أن تضغط على الخطاب السياسي العربي من أجل أن يعيد وضع كل «بيضه» في سلة واشنطن، حيث حاول البعض أن يصوّر حالة الغضب والاستنكار الشديدين جراء التأثر البالغ بمشاهد ضحايا الأزمة السورية، على أنه يدعو إلى إسقاط الحلول الوسطية وإلى ضرورة العودة إلى النظرة الأحادية في مقاربة العلاقات الدولية، والاختيار من ثمة ما بين: إمّا ترامب «المتهور» وإما بوتين «المتصلب».
صحيح أنه من الخطأ أن نراهن على فرضية أن روسيا تمتلك القدرات الكافية والضرورية من أجل مواجهة القوة الأمريكية الضاربة على المستويات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، لكنه ليس من الحصافة في اللحظة نفسها أن نذهب إلى القول، إن القوة الأمريكية يمكنها أن تفرض شروطها وإملاءاتها على المحور الروسي – الصيني، لأن مفهوم القوة نفسه، على مستوى فلسفة العلاقات الدولية، صار أكثر نسبية ويعتمد على خيارات الردع المشترك، أكثر من اعتماده على سيناريوهات مواجهة حقيقية؛ وبالتالي فإن التصعيد الذي يحدث ما بين القوى الكبرى يهدف في الأساس إلى الحصول على تنازلات محدودة بشأن بعض الملفات الدولية الكبرى، ولن يكون بإمكانه في كل الأحوال أن يؤدي إلى أكثر من إجراء بعض التعديلات البسيطة على مستوى النسق السائد في رقعة الشطرنج العالمية.
نستطيع أن نزعم بناءً على ما تقدم، أن السياسة الرسمية العربية شهدت خلال السنوات الأخيرة الكثير من التحوّلات على مستوى العلاقات السياسية مع واشنطن وموسكو، وكان واضحاً أن الدول العربية، سعت في مجملها إلى إدخال نوع من المرونة في مسار تحالفاتها مع القوى الكبرى، دون التضحية بطبيعة الحال بمكاسب التحالفات التاريخية التي جرى نسجها خلال عقود من الزمن ؛ وقد أسهمت بوادر الابتعاد الأمريكي عن الكثير من قضايا الشرق الأوسط والتصريحات المستفزة لترامب، أثناء حملته الانتخابية،تجاه بعض الدول العربية، في دعم التوجهات العربية الساعية إلى تطوير العلاقات مع روسيا، لاسيما على مستوى العلاقات الروسية مع دول الخليج والأردن ومصر. وعليه يمكننا أن نغامر بالقول في هذا السياق، إننا سنرتكب خطأ استراتيجياً إذا قمنا بالبناء على التحوّلات التي حدثت في مواقف ترامب الجديدة، من أجل إعادة النظر في مسار التقارب مع موسكو الذي ما زال ساري المفعول حتى الآن، الأمر الذي تؤكده التصريحات العربية العديدة.
لا ريب أن نسق هذه المقاربة السريعة، يقودنا حتماً إلى الاعتراف، أن الدول الكبرى لا يوجد من بينها من يمثل الخير الكامل أو الشر المطلق، وأن الزعيم الجيد، كما قال أحد الكتّاب العرب، يكون جيداً أو سيئاً لشعبه ولبلده في المقام الأول؛ وأن اللون الرمادي في العلاقات الدولية مسألة تكاد تكون حتمية، لأنه من الحماقة بمكان أن نحكم على المواقف السياسية اعتماداً على معايير أخلاقية جامدة تفتقر إلى المرونة المطلوبة. ومن ثمة وبدلاً من المفاضلة أو الاختيار ما بين بوتين وترامب، علينا أن ننحاز إلى مصالح شعوبنا وننتصر لأمننا القومي العربي.

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى