اخترنا لكنون والقلم

«المواطن السعودي» وأزمة قطر

وقع عدد لا بأس به من مواطني المملكة في لبس عشية ردود الأفعال الغاضبة من وسائل الإعلام السعودية، على إثر خروج «تصريحات تميم» وما أكدته هذه التصريحات حول سلوك حكومة قطر المريب والمثير، ليس اليوم فقط، بل ومنذ الانقلاب على والده الشيخ خليفة آل ثاني قبل 20 عاماً.

كان عدد كبير منهم ينتظر تعليقاً رسمياً من الدولة، لكنها لم تفعل واكتفت بالقرار السيادي الخاص بحجب قنوات الجزيرة والمواقع الأخرى المناهضة للمملكة بعد أقل من ١٢ ساعة من ظهور التصريح. ربما أن المملكة فضلت اللعب مع قطر بنفس أدوات قطر وهي الإعلام. وهكذا دخل بعض المواطنين في مزايدات عجيبة على موضوع الأخوة والوحدة الخليجية، وكأن المملكة لم تكن هي الداعية أصلاً إلى قيام هذا التعاون منذ زمن الملك فيصل والشيخ زايد آل نهيان رحمهما الله. وكأن المملكة لم تتحمل مع الأشقاء في الإمارات كل أنواع الأذى والاستفزاز الذي تخصصت فيه قناة الجزيرة المملوكة بالكامل للحكومة القطرية منذ تأسيسها، وكأن المملكة مخلوق أعمى أصم لا يرى ولا يسمع برامج منحتها القناة صفة «الوثائقية» تم إنتاجها وإعدادها وإخراجها بعناية فائقة فقط للنيل من المملكة، سواءً بتهم الفساد أو بتمويل الإرهاب. كما أنهم يعتقدون أن المملكة بطريقة أو بأخرى فاتها الاطلاع على ذلك الحديث التآمري، الذي قام بتسجيله معمر القذافي عندما جلس معه الشيخ حمد بن خليفة، وقد وضع القذافي بمكره وغدره المعهود آلة التسجيل في واحدة من عشرات الجيوب غير المرئية التي يحويها زيه الشعبي الملفوف على كامل جسده من الرأس إلى القدمين. كان الشيخ حمد يتحدث في ذلك التسجيل بكامل حريته ويفصّل للقذافي خطة انتهاء آل سعود وسقوط المملكة، غير مشكك على الإطلاق في وجود آلة تسجيل، بل وفي مقاطع عدة كان يراهن على المدة الزمنية اللازمة لوقوع ذلك، والقذافي يستمع ويستمتع بنهم واهتمام.

لا يمكن للمرء أن يلقي باللائمة على كل مواطن اعترض على موقف الإعلام السعودي الشريف الذي شرع قنواته ومنابعه للذود عن مصالح الوطن العليا. لنتذكر أن هذا الإعلام ولعشرات السنين خضع لحملات تخوين قادها ويقودها حتى اليوم أفراد من سقط المتاع من داخل الوطن مع الأسف، من دون وجود أي رادع أو حتى مساءلة. حملات ممنهجة لم أسمع ولم أطلع على مثيل لها موجهة لدولة عدوة وليس عندي شك في أن بعض المواطنين قد تأثر وصدّق ما سمعه من هذه التهم الخطرة.

المواطن السعودي بطبعه مواطن كريم وشهم ومتدين بالفطرة ويحفظ حقوق الجار ويترفع عن سفاسف الأمور، وجاءت تلك الحملات مصممة بعناية لتلامس هذه القيم. لكن هل لو كانت تلك الحملات «التويترية» الموجهة ضد الإعلام السعودي موجهة ضد قناة الجزيرة ومواقع عزمي بشارة وغيره الممولة بالكامل وبسخاء من قطر، هل سنرى نفس هذا اللبس والحيرة؟ أنا أتحدث عن مواطنين شرفاء لا أشك في وطنيتهم، وبالطبع هناك من تعمد الإقلال من أهمية مكر وتآمر الإخوة في قطر، إما من منطلقات شعبوية تافهة وبمفردات رنانة أو من انتماءات حزبية ومصالح ضيقة، وهؤلاء ينتمون أو يتعاطفون مع جماعة «الإخوان المسلمين»، التي جرمتها المملكة بينما قررت قطر احتضانها ودعمها.

أحرر هذه المقالة وقد مضى على كشف الأكاذيب القطرية ومواقف حكومتها المريبة أكثر من عشرة أيام، ظهر خلالها كثير من التفاصيل الدقيقة «المؤلمة» حقيقة، وأتوقع ظهور المزيد مع مرور الأيام. استيقظ كثير من مواطني المملكة على حقيقة ما كان يحاك ضد بلادهم من مؤامرات لا يمكن وصفها، وببالغ الأسف أيضاً، إلا بمفردات الخسة والدناءة والخيانة. من يتابع ردود الأفعال داخل الوطن السعودي منذ بدء إعلان ذلك التصريح المشين يلحظ عودة الناس الآن إلى الواقع المر والتعامل معه. أما من بقي إلى الآن مشككاً فهذا مواطن مريض تجاوزت حاله كل وسائل العلاج الحميدة غير المؤلمة، وقد يضطر إلى مواجهة الكي.

أعلم ومن خلال تجربتي في الكتابة لعقدين أن وزارة الإعلام دأبت وعلى الدوام على تحذير الصحف والكتاب بعدم الخوض في خلافاتنا مع بعض الدول الشقيقة، وتدفع التوجه بشكل عام إلى تجاهل ما يلحق بنا من أذى. شخصياً تسببت بعض المقالات التي كتبتها في نقد «الجزيرة» وقطر في الكثير من الحرج للزملاء في هذه الصحيفة، مما اضطر الصحيفة للاعتذار عن نشر مقالات أخرى مماثلة. هذا تصرف مفهوم من دولة كبيرة وحاضنة كالمملكة، لكنها في رأيي الشخصي سياسة امتدت زمنياً أكثر مما يجب. ربما أن طول زمن الصمت وطول البال إضافة لما ذكرت قبل قليل عن تغاضي الدولة مع من يقذف ويسيء ويتهم أبناء وبنات الوطن من العاملين في أجهزتنا الإعلامية، أقول طول البال هذا مع من لا يستحقه قد منح كل الأطراف المقابلة نوعاً من الشعور بالقوة والجرأة وأدخلهم في واحات الأمن والطمأنينة والأحلام. لكن وكما أن بلادنا تمر بنهج جديد وتغيرات هائلة وقوية بعزيمة وثقة نحو مستقبل أفضل على المستويات التنموية والاجتماعية فهي تطبق ذلك على المستويات السياسية. أقول ذلك جازماً بعد نجاح قمم الرياض الأخيرة وغير المسبوقة والتي تعتبر في نظر الكثيرين منعطفات تاريخية لدول وشعوب المنطقة.

أجزم أن البعض من مواطنينا لم يقرأوا هذا التحول بوضوح، ومؤكد أن الإخوة في قطر لم يقرأوا هذا التغيير ولم يراجعوا حساباتهم. كان يفترض بعد أن راهنوا على ابن لادن وزمرته وتحولوا لدعم «الربيع العربي» عبر جماعة «الإخوان المسلمين» وأغدقوا المال على أفراد عدة ومن كل جنس وعرق لإدارة مواقع إلكترونية عدة ووهبوا الهدايا والحقائب السوداء للزائرين، أقول كان يفترض أن يتوقفوا ويتنفسوا قليلاً بعمق، لكنهم لم يفعلوا ذلك. صحيح أن قطر تشترك في التحالف العربي في اليمن، لكنها تعتبر مشاركة مجاملة فقط ولا أظن أن بمقدورهم الاعتذار عن ذلك عندما دعت المملكة إليه. هذه المشاركة عموماً تقع ضمن سياق السلوك العام الذي نعرفه عنهم. كما نذكر في أيام حكم الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله، حدثت مواقف متعددة دفعت المملكة وبهدوء يحفظ التلاحم الخليجي إلى مراجعة علاقاتها مع قطر، وفي كل مرة يحدث نوع من الصلح برعاية دولة ثالثة مثل الكويت. لكن ما أن تنتهي حفلة التصالح حتى تعود هذه الشقيقة الشقية إلى سلوكها القديم.

أما المواطن السعودي فسيطّلع مع الأيام المقبلة على كل الحقائق وسيقف كما هو دائماً شامخاً أبياً وسداً منيعاً مع بلاده بصرف النظر عن هوية ومكانة الخصم. مثل هذه التجارب ستصقل مفهوم المواطنة عند الكثيرين وستدفع الشعب إلى مستويات جديدة من الإقدام وعدم التردد في مثل هذه المواقف الصادمة، وسترتفع معدلات الثقة بوسائل إعلام الوطن التي نالها الكثير من الأذى والتهم والتخوين منذ أن أمر الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله بضرورة تأسيس قناة إخبارية عربية تدافع عن المملكة وتفند ادعاءات قنوات أخرى كالجزيرة وغيرها وأقصد هنا تحديداً ظهور قناة «العربية». عندئذٍ سيدرك المواطن أن قوة الإعلام تعتبر كقوة الجبهة العسكرية والوقوف ضد مواقف القنوات الوطنية كالوقوف ضد الجيوش والأجهزة الأمنية في الأزمات. وسيدرك المواطن والعالم أن الإعلام السعودي تعامل في الغالب الأعم بتقاريره ومقالاته بمهنية ورقي وابتعد عن الطعن في الأشخاص والأعراض. هل ننسى تلك الجبهة الضاربة التي قادتها صحيفة «الشرق الأوسط» إبَّان غزو العراق للكويت، وكان فارسها بشكل كبير ولافت المرحوم بإذن الله غازي القصيبي وعموده اللاذع «في عين العاصفة». هل وجد آنذاك أي مواطن يشكك في مواقف الإعلام السعودي؟ ما الذي تغير؟

أختتم بالقول كمواطن سعودي ومتابع للمشهد، وهذا رأي شخصي، مع تاريخ سياسة قطر، لا أتوقع هذه المرة أي تصالح وشيك مهما تعددت محاولات البعض في عودة المياه إلى مجاريها. علينا أن ندرك لماذا تتصرف السعودية بهذا الشكل غير المعتاد وندرك الأسباب قبل أن نكرر الحديث الساذج والمناصحة الجوفاء بمطالبة عودة المياه إلى مجاريها. المملكة ستعفو عن إساءات قطر فقط عندما تأتي المصالحة المرتقبة مرتبطة بشروط معلنة وواضحة وبحضور إقليمي أو دولي معلن وبوجود شهود وغير قابلة للنقض والتلاعب مجدداً.

نقلا عن صحيفة الحياة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى