نون والقلم

البرج (سابقاً البيت) الأبيض

يدخل العالم، رسمياً، بعد يومين، عصر اللغط الذي دخله، مبدئياً، منذ فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية. لم يحدث أن أثار انتخاب رئيس أميركي في التاريخ، مثل هذه البلبلة. رجل يثير الحيرة والتخوف، وأحياناً، الازدراء، كيفما تحدث من خلف منصة، أو غرّد من على حامولة «تويتر»، بلا أي رادع أو اعتبار أو حساب لأحد، أو لشيء.

بعد يومين سوف يتعين عليه أن يقرأ نصاً مكتوباً، وأن يلتزم تاريخية الخطاب. وسوف يكون نصاً أدبياً، وربما خلاباً. وبعدها يعانق في حنوّ السيدة ميلانيا، كما عانق جون كينيدي جاكلين بوفييه، أو كما عانق باراك أوباما، أول سيدة أولى سوداء، وقادمة من هارفارد. سوف يتعين على السيدة السلوفينية، أن تقرأ شيئاً من تاريخ أميركا كي تعرف طريقها في البيت الأبيض، واختلافه عن أبراج الزوج.

بعد الآن، لن تبقى ميلانيا في الصفحات الاجتماعية، ولا دونالد في صفحات العماير والناطحات. «تويتر» واحد منه، وتنصتُ دور الحكم حول العالم مثل الأرانب: أذنان صاغيتان رعباً. ولا احد يستطيع أن يتكهّن بما سيقول الرئيس الأميركي الجديد. ولا بأي أسلوب. هو، فعل ما عليه، وأصبح رئيساً لأميركا، والآن على العالم أجمع أن يفعل ما عليه: أن يقرأ ماذا يريد، وأن يقرأ نفي ما قال إنه يريد، وأن ينفي هذا وذاك. لن يكون العالم مملاً مع ترامب، لكنه سيكون صعباً ومعقداً وسيئ الطباع.

إن الدنيا رُكّبت هكذا، بحيث لم يعد في إمكانك التصرف وكأن الأمر لا يعنيك. فقد تُقاطِع الإصغاء إلى نشرات الأخبار، ولكن ماذا يضمن أن إحداها لا تحمل صاروخاً بالستياً، أو شحن 10 ملايين مهاجر غير شرعي خارج كل بوابات أميركا. ما عدا المكسيكيين، فهؤلاء في الدفعة التالية من تنقية أميركا وإعادتها «عظمى» تحت جناح الحبيب، الذي لم يكف عن الكلام يوماً واحداً، بما فيه أيام العطلة، منذ أن قرر أن يصبح رئيس أميركا.

العالم، هذا العالم، ليس ما نريد ولا ما نتمنى. في أقصى الحالات تستطيع أن تعزل نفسك في برج جميل، مثل مونتين، وتدوِّن ما شئت من أفكار. نعدك بالاهتمام. ولكن في غضون ذلك، عليك أن تقرأ امثولات التاريخ، لا مطالعات ذلك الرجل النبيل. لقد كتب رؤيته من برج. أما الرئيس الجديد، فقد خلط الأبراج وباعها في السوق. أنه الفارق بين النظري والعملي، إذا كنت لا تزال تتذكر النكتة، حفظك الله.

الفرد صاحب التجربة القليلة في قيادة الدول، ظاهرة خطرة. على أصدقائه وأعدائه معاً. ربما كنت قد سئمتَ تكرار مَثَليّ ستالين وهتلر، ولكن ماذا نفعل إذا كانا المثلين الأكثر فداحة في التاريخ. صحيح أن إرادة الفرد وشخصيته تظهران أيضا في نماذج أخرى كثيرة، ولكن عندما يطغى الشخص على المنصب، كما في حال ترامب، لا تعود من كَدَرِكَ وخوفكَ، ترى غيرهما. كلاهما لم يكن يصغي إلى احد. قرار هتلر بغزو روسيا، دمر نظامه ودمّر ألمانيا ودمّره. كان عاجزاً عن قراءة التاريخ أو فهمه. وثمة قول قديم جداً يبدو أنه لم يطلع عليه: «روسيا ليست قط القوة التي تبدو عليها، ولا بالضعف الذي تبدو عليه».

لم يكن وحده يقلل أهمية  «الجيش الأحمر». ففي تقرير لرؤساء الأركان البريطانية والفرنسية، أن أداء الجيش الأحمر أقل مستوى من أداء الجيش البولوني. وأما هتلر نفسه، فقال للسفير البلغاري دراغونوف، إن «الجيش الأحمر ليس سوى نكتة سوف يصار إلي تقطيعها تقطيعاً». والعام 1940 قدّر أنه سوف يكون في بطرسبرج خلال ثلاثة أسابيع. الباقي معروف.

رأى صدام حسين نحو 700 ألف عسكري بينهم نصف مليون أميركي، يحشدون لتحرير الكويت، ومع ذلك قرر المضي في الحرب. وسوف يقول وزيره طارق عزيز في ما بعد، إن السيد الرئيس لم يصغ إلى أحد في موضوع الكويت. وكاد يقول، إنه لم يصغ إلى احد في أي موضوع. والذين يعتقدون – مثلنا – أن في الدولة الأميركية ضوابط وأنظمة وأحكاما، تحول دون مثل هذه المغامرات المدمرة للذات، عليهم أن يراجعوا الوثائق المكشوفة حديثاً، والتي تؤكد أن ريتشارد نيكسون ترك حرب الفيتنام تستفحل وتطول لأسباب انتخابية فقط، كالتي تقدم الآن في تدخل روسيا لحساب ترامب.

يصبح العالم أكثر هشاشة، وأقل أمناً، وأكثر إرعابا، عندما يكون الفرد وحيداً في موقع واسع التأثير. ونحن في هذه المنطقة من الأرض، نعيش وكأن كل براكين العالم همدت إلا براكيننا. وما كنا نسميه تحبباً «الوطن العربي الكبير»، يقع في أكثر القارتين تخلفاً، آسيا وإفريقيا. وأكثرها هبوباً وحروباً وقبليات. ونحن اليوم الجزء الوحيد فيهما الذي لا يزال يغلي بالدم والقتل والتخلّف. نحن الجزء الوحيد المشتعل في هذا الكوكب. وجميعنا ننتظر درساً خصوصياً في «كيف نعامل ترامب»، و «كيف نعامل بوتين». الوطن العربي الكبير مجموعة حروب كبيرة وأزمات كبرى. عينكم الآن على الجزائر، فقد بدأت أخبار الطاعون بالخروج منها. ليس «طاعون» البير كامو والدكتور ريو، بل ما هو أسوأ وأكثر عمى. وحتى المغرب، ذلك المثال على تجاوز الأزمات، يتعثر منذ أشهر في تشكيل حكومته: ليبيا، تونس، الجزائر، والآن المغرب، أي الشمال الإفريقي العربي. وفي المقابل التأزم المعلن في الصومال ومصر والسودان. وحمَ الله موريتانيا. وفي الجزء الآسيوي من «الوطن العربي الكبير»، العراق وسوريا واليمن. أما غير العرب في القارتين، فعلى درب المستقبل. الصين الآسيوية، واليابان، وسنغافورة، والآن اندونيسيا. ولا يزال جزء كبير من إفريقيا في الغابة، لكنها اقل توحشاً بكثير من غاباتنا. واقل ظلمة.

لغط. بعد يومين يدخل الرجل البيت الأبيض، واللغط يعم العالم. يحكي وينفي. يؤكد ويبدد. والذين تحدثوا حتى الآن من أعضاء إدارته، نقضوا مواقفه في أمور كثيرة، وكأن المسألة مسألة حكومة ترينيداد وتوباغو، وليست مسألة عالم يقف برمّته على مجموعة حافات وإخطار من اقتصاد وحروب وإرهاب وهوس وجنون.

نحن، في هذه المهنة، تعلمنا أن نخاف على عالمنا من المُكابرين. المُكابر لا يسمع ولا يرى. يتطلع في المرآة ولا يرى سوى نفسه. تطوقه الدهماء بالحماسة، ثم بالخنق، لأنها لا تعرف الفرق. ولا يهمها أن تعرف. لم يعش ستالين يوماً واحداً بعد وفاته. ولم يقر ألماني واحد بأنه كان مع هتلر. وعندما طعن بروتوس القيصر، تأكدت الجماهير من برودة قدميه، ثم خرجت تهتف للقيصر الجديد.

سميناه عصر اللغط، لأننا أمام برج بابل، لا أمام أبراج ترامب. بلبلة. رجل لا ذكر في سيرته إلا للتشاطر على القانون. لا مكان في خطابه للهدوء، أو المحبة. كاوبوي يهدد بالسجن بدلاً من أن يهدد بالإحالة على المحكمة، تاركاً لها أن تحكم بالبراءة أو بالإدانة. سوف نتعب كثيراً إذا لم يتعجل دونالد الأمر: المجيء بمدرّب يلقنه أصول السلوك في البيت الأبيض. بعد بوش الأصغر، كان باراك أوباما فاصلاً بائساً في المسيرة البشرية. رجل أمضى ثماني سنوات من غير أن يبلغه ساعي البريد أنه أصبح رئيساً. والآن الرعب اكبر بكثير: من يستطيع أن يبلغ ترامب انه أصبح رئيساً؟ قليلاً من الهدوء يا «دون»… إذا أمكن.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى