اخترنا لكنون والقلم

إدارة أزمة قطر

لا شك في أن دولة قطر انحرفت كثيراً عن «مسار المصلحة» لدول الخليج العربي. اختارت هذه الدولة الشقيقة والجارة، متعمدة، طريقاً مضراً بأمن واستقرار جيرانها، وكان لا بد من مواجهتها وكف يدها عن العبث بمستقبل المنطقة. قررت السعودية ومصر والإمارات والبحرين الوقوف صفاً واحداً في وجه الفوضى والتآمر والعبث السياسي والأمني، واختارت المواجهة العلنية بإيجابياتها وسلبياتها… فهل كان هذا النوع من المواجهة هو الأسلم والأصلح لتحقيق النتائج المطلوبة؟!

كان أمام دول الخليج أربعة سيناريوات مختلفة لإدارة الأزمة مع قطر، تدخل مصر في بعضها، وتبتعد بدور خاص في بعضها الآخر.

السيناريو الأول هو صبر الدول الخليجية الثلاث على المراهقة السياسية القطرية، وبذل الجهود لإعادتها إلى المنظومة الخليجية بالحسنى، مرة بالحوار الداخلي وعلى طاولة بعيدة عن عيون الإعلام، ومرة باستخدام العادات والتقاليد العائلية في المنطقة، ومرة بتمرير ما يمكن تمريره والاحتجاج المبطن الأخوي على ما لا يمكن تمريره.

دول الخليج تفعل كما كانت تفعل طوال السنوات الماضية: تصبر بانتظار ما سيسفر عنه الصبر، فيما يواجه المصريون قطر إعلامياً وعبر المنظمات العربية، كما كانت تفعل.

هذا السيناريو كان سيمنع الدول الانتهازية في الإقليم وفي العالم من استغلال الأزمة ودخول المنطقة على جناح «صناعة الحلول». وكان سيفوّت على الدول التي لا تريد بِنَا وبقطر خيراً أن تضع أقدامها في غرب الخليج، بحجة حماية الدولة الصغيرة الضعيفة قطر! كما كان سيحافظ على منظومة مجلس التعاون الخليجي ويبقيها ثابتة وصلبة في محيط هش ذي مكونات سياسية قابلة للكسر في أية لحظة.

بهذا السيناريو كانت المشكلة ستبقى دائماً في البيت الخليجي، لكنها ستظل على الدوام بلا حل، إذ ستستغل الدوحة هذا الضعف في المواجهة، وتمضي قدماً في مشاريعها التخريبية حتى تصل إلى نقطة يصعب معها معالجة الموقف في المنطقة.

هذا السيناريو كان ساقطاً منذ البدء، لكن دول الخليج اعتمدته سنوات طويلة لعل وعسى أن يثوب القطريون إلى رشدهم بعد أن تزول عنهم غشاوة القوة والقدرة اللتين صنعتهما «البطالة السياسية» التي يعيشها نظامهم الحاكم، وتهدأ في نفوسهم ثورة الأحلام الكبيرة التي مررها القرضاوي وجماعته على نخبهم السياسية والثقافية. كان هذا السيناريو ساقطاً منذ البدء، وجميل أنه أسقط نهائياً خلال هذا الشهر.

السيناريو الثاني يتمثل باتفاق دول الخليج مع مصر على أن تتولى القاهرة تصعيد الموقف ضد قطر، بدعم من الدول الثلاث. تظهر دول الخليج في العلن متفقة مع خط السياسة القطري، لكن في الخفاء تعمل مع مصر على تحجيم دور قطر، وتُمد القاهرة بالأدوات اللازمة لإضعاف «المبادرات الشريرة للدوحة» حتى تخضع الأخيرة في النهاية للأمر الواقع وتعود إلى حجمها الحقيقي، وتطلب فتح صفحة جديدة في علاقاتها بدول المنطقة كافة.

كان هذا السيناريو سيحافظ على مجلس التعاون الخليجي شعبياً، وسيضعف دور قطر التخريبي في المنطقة، لكنه سيخترق قلب المنظومة بطرف عربي لا يمكن التخلص من تأثيره في المحيط الخليجي بسهولة، وسيساهم في أن يظل شبح القاهرة موجوداً فترة طويلة في الأجواء الخليجية، الأمر الذي سينعكس على استقلالية الموقف الخليجي مستقبلاً.

أما السيناريو الثالث فيتمثل بأن تعمل دول الخليج الثلاث، وبخاصة السعودية، على الضغط الشديد على قطر «تحت الطاولة» وتعمل جراحياً وبقسوة شديدة على تعديل سلوكها المخرب، بعيداً من عيون الإعلام، مع الإبقاء على العلاقات السياسية كما هي. تفعل ذلك في الغرف المغلقة، وبهدوء شديد، وعندما تشتغل كاميرات التلفزيون على تصريحات المسؤولين تتطاير يمنة ويسرة كلمات الأخوة والتاريخ الواحد والمصير المشترك! تعمل الدول الخليجية المتضررة بطريقة عمل دولة قطر نفسها: معركة كسر عظم في الخفاء، وفي العلن هم إخواننا الذين لا نتخلى عنهم ولا يتخلون عنا!

السعودية والإمارات قادرتان اقتصادياً وسياسياً، وحتى مجتمعياً، على مواجهة مشروع قطر الخفي بمشروع خفي آخر ينهي الطموحات الشريرة للدوحة في أشهر معدودة، ويعيدها صاغرة إلى منظومتها الخليجية بلا خسائر كبيرة، على مستوى الشعوب والعلاقات الدولية. الدولتان قادرتان بسهولة شديدة على هزيمة قطر فوق الطاولة أو تحت الطاولة متى كانت المواجهة مكشوفة للطرفين.

السيناريو الرابع، وهو الذي اختارته السعودية وحلفاؤها، وجعلته واقعاً بالفعل على الأرض، يتمثل بمواجهة قطر في العلن ووضع اختراقاتها وانتهاكاتها وانحرافاتها وجهاً لوجه أمام المجتمع الدولي، على طريقة آخر العلاج الكي، كما ذكرت في أول هذه المقالة. وعلى رغم ما لهذا السيناريو من جروح عميقة وآثار سلبية في مجلس التعاون الخليجي والشعوب الخليجية، فإنني لا أميل كثيراً إلى الأطراف التي تتمنى انتهاء الأزمة، التي خلقها هذا السيناريو، في شكل سريع وعبر مصالحة عابرة، لتعود بعدها قطر من جديد إلى المنظومة الخليجية، بل إنني أتمنى أن تواصل الدول الخليجية الثلاث مع مصر القطيعة السياسية والرقابة الفاحصة لتحركات قطر خارج حدودها، فترة طويلة، حتى يشعر القطريون مع مرور الوقت أن خساراتهم التي ستكبر وتتعاظم ما كانت لتكون لو تعاملوا مع واقعهم كما تتطلب النظرية السياسية.

نقلا عن صحيفة الحياة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى